درستُ في مدارس الراهبات، وتفتّحت عينيّ بين جدرانها، لكنّي لم أكن يومًا ممّن يضعون مدرسة فوق أخرى، أو يَصِفون “المدارس العادية” بما ينتقص من قيمتها. أدركتُ مبكرًا أن المدرسة ليست لافتة على بوّابة، بل أرواحٌ تحمل النور، وعقولٌ تصنع المعنى. وهذا ما غمرني به ذلك المكان الصغير الذي صار وطنًا لذكرياتي.
فالراهبات اللواتي عرفتهنّ جئن من فرنسا وإسبانيا وإنجلترا… خليطٌ من الثقافات يسكب في الممرّات دفئًا وبهجة وروحًا لا تتكرّر. كان شغفهنّ بالأنشطة يفيض على المكان: موسيقى تهمس من الفصول، ورائحة ألوان تتفتح في غرف الرسم، وخيطٌ وإبرة يوقظان القماش من سكونه في حصص التطريز. كانت المدرسة ورشةً كبرى للحياة… لا مجرد مقاعد وامتحانات.
وكانت أغلب البنات يركبن باص المدرسة، ولِكَثرتنا أصبح لا بدّ من رحلتين ذهابًا وإيابًا. وكنتُ دائمًا من بنات الرحلة الثانية. وهناك، في هدوء تلك الساعة، كان يتكوّن لنا عالم صغير، نرسم حدوده ببراءتنا: حوش واسع، خطوات طفولة حرّة، وغيابٌ تامّ لكاميرات تُلاحقنا… فقط أمان بسيط يشبهنا.
وكان للمدرسة بوّابها الطيب… عمّ محمود، واقفًا بثبات عند البوابة، وبجواره ابنه أسامة يساعده. ولد هادئ القسمات، خجول المظهر، لكن موهبته في الرسم كانت قادرة على أن تجعل الجدران تصفق له. كان يعلّق لوحاته على جدار كشك الكوكاكولا، فنقترب منها كما لو أنّ ألوانها تهمس بأسمائنا.
وفي يومٍ هادئ، بينما كنّا نتأمّل رسومات أسامة، ظهرت Soeur Jacklen بخطوات رقيقة وابتسامة تسبق كلامها. سألتنا عن رأينا، ثم أمسكت بأيدينا بمحبة خالصة، واقتادتنا إلى قاعة Soeur Avelina.
وللحظة، خفق القلب. كان اسمها وحده كافيًا ليوقظ فينا رهبة طفولية.
لكن ما إن دخلنا… حتى انهار ذلك التصوّر. وجدنا امرأة أخرى: ابتسامة مطمئنة، عينان دافئتان، وفنانة تقف وسط لوحاتها كأنها أمّ لكائنات من الألوان. أخذتنا في جولة قصيرة، فتحت لنا فيها أبواب عالم أكبر من أعمارنا. شرحت، وضحكت، وكشفت لنا أسرار لوحاتها… وكأنّها تنزع عن نفسها قشرة الهيبة لتُريَنا قلبًا لا يراه إلا مَن يعرف لغة الفن.
ومنذ ذلك اليوم، صرنا نعدّ الدقائق الأخيرة من الدوام شوقًا إلى اللحظة التي ندخل فيها عالمها: نرسم، ونطرّز، ونتعلّم، وننصت للخيال وهو يكبر فينا.
وبعد سنوات، أدركتُ أن ما فعلته Soeur Jacklen لم يكن عفويةً عابرة، بل حكمة تربوية رقيقة. كانت تحافظ علينا بقلبها، وتُبعدنا عن ما لا يليق بطفولتنا، دون صخب ودون إساءة، بل بلمسة مُربية تعرف كيف تحمي دون أن تُفزع، وتفتح الدرب دون أن تُصادر الخطوة.
واليوم، حين أرى ما يحدث في بعض المدارس من حوادث موجعة، أدرك أن المشكلة لم تكن يومًا في الأنظمة، بل في غياب تلك الروح التي كانت أمثال Soeur Jacklen يحملنها. فقد انشغل كثيرون بالربح بدل التربية، وبالأرقام بدل الحماية، وغابت المسؤولية التي كانت عمود المهنة. ومع غيابها، غابت تلك العين التي ترى بقلب، واليد التي تُبعِد الخطر قبل أن يقترب.
وهناك فقط… فهمت معنى التربية الحقّة: أن تُمسكي بيد الطفلة دون أن تشدّي عليها، وأن تُضيئي لها الطريق دون أن تخوّفيها منه.
وعند هذه النقطة بالذات، أدركتُ أن الزمن لم يتغيّر حقًّا… نحن الذين غيّرنا مفاهيم التربية، وتركنا ما كان يحرس طفولتنا من يقظة الضمير ودفء الروح. فليست الحوادث المؤلمة التي نسمع عنها اليوم ابنةَ الزمن، بل ثمرة غياب تلك الإنسانية التي كانت تمنح الأطفال أمانًا صامتًا لا يُرى، لكنه يُشعَر. وما يحمي الطفلة ليس العصر الذي تعيش فيه، بل يدٌ تعرف معنى الاحتواء، ونفْسٌ تسكنها المسؤولية، وتربيةٌ تُبنى على الوعي لا على المراقبة، وعلى الرحمة لا على الشك. وحين تراجعت هذه القيم… بدا لنا وكأن الزمن هو الذي تبدّل، بينما الحقيقة أن التربية وحدها هي التي فقدت جزءًا من جمالها.
#_جيهان_سرور
#_شوية_فضفضة
