أخر الاخبار

الساحرة التي رسمت روحها على قماش السريالية

 

       

         ليونورا كارينغتون

كتبت: مي محمد حمزة


في عالمٍ مليء بالضجيج الذكوري، اختارت ليونورا أن تهمس — وأن يكون لِهمسها أثرٌ لا يُمحى.

ليست مجرد فنانة تشكيلية تنتمي للمدرسة السريالية؛

بل كانت امرأة تعبر الأكوان، ترسم الغرابة كما لو كانت حياةً أخرى، وتكتب الجنون كما لو كان لغة روحانية خفية.

من إنجلترا إلى المكسيك: رحلة هروب نحو الذات



كانت ماري ليونورا كارينغتون، الحائزة على وسام الإمبراطورية البريطانية برتبة ضابط، رسامة سريالية وروائية بريطانية المولد.

وُلدت في عائلة أرستقراطية بإنجلترا عام 1917، وتربت على طقوس الصمت الاجتماعي والأنوثة المقيدة بقواعد الطبقة.

لكن منذ الصغر، كانت تشعر بأنها تنتمي إلى عالمٍ آخر، عالم خلف الجدران، خلف المرايا.

تمردت على حياة كانت مرسومة لها مسبقًا، وتم طردها من المدرسة تلو الأخرى بسبب "غرابتها"، لكنها لم ترَ ذلك نقصًا؛ بل دعوة خفية لما هو أعمق.



هربت إلى الفن، ثم إلى باريس، ثم إلى أحضان السريالي ماكس إرنست.

في عام 1936، شاهدت كارينغتون أعمال الفنان السريالي الألماني في المعرض الدولي السريالي في لندن، وكانت منجذبة إلى فنه قبل أن تقابله.

وفي عام 1937، التقت بإرنست في حفل أُقيم في لندن، وارتبط الفنانان، ثم عادا معًا إلى باريس، حيث سرعان ما انفصل إرنست عن زوجته.




وفي عام 1938، غادرا باريس واستقرا في سان مارتن دارديش بجنوب فرنسا.

لكن الحرب لم تمزق أوروبا فقط… بل مزقت قلبها.

فمع اندلاع الحرب العالمية الثانية، ألقت السلطات الفرنسية القبض على إرنست، الذي كان ألمانيًا، لكونه «أجنبيًا معاديًا».

وبوساطةٍ من بول إيلوار وأصدقاء آخرين، من بينهم الصحفي الأمريكي فاريان فراي، أُطلق سراحه بعد بضعة أسابيع.


وبعد فترة وجيزة من غزو النازيين لفرنسا، أُلقي القبض على إرنست مرة أخرى، هذه المرة على يد الغيستابو، لأن النازيين اعتبروا فنه «منحطًا».

وتمكن من الفرار، ليرحل إلى الولايات المتحدة بمساعدة بيغي غوغنهايم، راعية الفنون المعروفة.

كان لاعتقال إرنست أثرٌ مدمر على كارينغتون، التي وافقت على الذهاب إلى إسبانيا مع صديقتها كاثرين يارو.

عانت من انهيار عصبي، ودخلت مصحة عقلية في إسبانيا — تجربة تركت ندوبًا داخلها، لكنها أيضًا فتحت بوابة للرؤية.

سريالية ليونورا: ليست حلمًا… بل كشفًا

في لوحاتها، لن تجد "الحلم" فقط، بل ستجد رحلة عبور داخل النفس.

هي لم ترسم لمجرد الجمال أو الهروب، بل كانت لوحاتها تشبه "الاستحضار الروحي".

النساء في لوحاتها لا يكنّ جميلات فقط… بل "حارسات"، "مشعوذات"، "عرافات".

والكائنات ليست رمزية، بل كأنها تمشي في غرفتها وتحادثها ليلًا.

استلهمت من الأساطير السلتية، ومن الموروث المكسيكي، وخلقت عالمًا فريدًا لا يشبه سريالية دالي ولا إرنست.

سريالية ليونورا كانت أنثوية، باطنية، ورافضة لأن تكون ظلًّا لأحد.

ليونورا الكاتبة: الكلمات كأداة كشف أيضًا

لم تكتفِ بالرسم. كانت تكتب كما ترسم:

روايتها الاستجواب كانت كأنها حلم أليم داخل عقل مضطرب.

مجموعتها ذاكرة الأعشاب، كانت خليطًا من الحكمة، والجنون، والطقوس السحرية.




كانت تستخدم الكلمات كفرشاة أخرى، تفضح ما لا يُقال، وتكسر قيود "المنطق"، وتُعلن عن رغبات وأفكار تصرخ داخل كيانها.

يُنسب تأنيث السريالية إلى كارينغتون؛ فقد كانت تحمل في لوحاتها وكتاباتها منظورًا نسائيًا داخل حركة فنية يهيمن عليها الذكور إلى حدٍّ كبير.

وكانت ترى أن النساء فنانات بذواتهن، وأنه يجب على الفنانين الذكور ألا ينظروا إليهن كـ"ملهمات" فقط.


من الهامش إلى الضوء

سنوات طويلة، كانت ليونورا تُقرأ فقط كـ"عشيقة إرنست" أو "الفنانة المنفية في المكسيك".

لكن بعد عمرٍ امتد منذ ولادتها وحتى وفاتها في المكسيك عام 2011،

عادت لوحاتها وكتبها لتحتل المساحات — لا كـهامش، بل كـ"أصل".

كثير من الحركات النسوية الفنية ترى فيها صوتًا رائدًا كسر التابوهات عن الأنثى، وجعلها كيانًا مبدعًا مستقلًا لا تابعًا.

ليونورا… عندما يصبح الجنون طريقًا إلى الحقيقة

في عالمٍ يشترط العقل والوضوح، اختارت ليونورا أن تمشي في الضباب،

أن تحادث الغراب، وتلبس الأقنعة، وتدخل عبر النوافذ التي لا يراها أحد.

وختامًا...

ليونورا كارينغتون لم ترد أن تكون مفهومة،

كانت تريد فقط أن تكون حرّة...

وهذا، في حد ذاته، أعظم عمل فني يمكن أن يُنجز.



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-