"ما أحتاجه أكثر من أي شيء هو الحياة، أن أعيش."
— فريدا كاهلو
كتبت:مي محمد حمزة
في زاوية معزولة من بيتٍ أزرق في "كويواكان" بالمكسيك، عاشت فريدا كاهلو حياةً لا تشبه إلا لوحاتها: حادّة، صاخبة، صادقة حتى العظم. لم تكن فريدا مجرد رسامة، بل كانت "روحًا مرسومة"، جسّدت في فنّها ألمها الجسدي، وعذاباتها النفسية، وتمردها الصارخ على كل ما هو تقليدي أو صامت أو مقيَّد.
طفولة مشوبة بالألم وبذور الفن
وُلدت فريدا في "كويواكان" بالمكسيك لأبٍ يهودي ألماني وأمٍّ مكسيكية. في سن السادسة، أُصيبت بشلل الأطفال، مما ترك ساقها اليمنى أضعف من الأخرى. لكن الحادث المفصلي وقع عام 1925، حين تعرّضت لحادث اصطدام مروّع بين حافلة وترام، أدّى إلى كسور عديدة في عمودها الفقري والحوض، وجعلها طريحة الفراش لفترات طويلة.
أثناء فترة النقاهة، بدأت بالرسم وهي مستلقية على السرير، مستخدمة مرآة مُثبتة في السقف لترسم نفسها. ومن هنا بدأت علاقتها الحميمة مع فن البورتريه الذاتي، الذي أصبح توقيعها الفني.
فريدا لم ترسم الورد؛ جسدها المنهك أصبح مرآتها إلى الداخل، وكل لوحة كانت نافذة تطلّ منها على روحها.
علاقتها العاطفية والفنية بدييغو ريفيرا
تزوجت فريدا من الرسّام الجداري الشهير دييغو ريفيرا في علاقة كانت عاصفة، مليئة بالحب والخيانة والدعم المتبادل. ورغم انفصالهما لفترة، فإن حياتهما بقيت متشابكة حتى النهاية. لعب دييغو دورًا كبيرًا في دعم فريدا فنيًا، لكنها ظلّت دائمًا فريدة في أسلوبها، لا تابعة له.
"لم أرسم أبدًا أحلامًا... بل رسمت واقعي، واقعي الخاص."
رسمت نفسها كثيرًا، ليس نرجسيةً، بل لأنها كانت الموضوع الوحيد الذي تعرفه تمامًا. جسدها كان رفيقها وميدان معركتها. تحدّت فكرة الجمال المثالي، ورسمت حاجبيها الكثيفين، وشاربها الخفيف، وندوبها، وآلامها بصدق لا يحتمل الزيف.
الروح التي لا تُكسر
لم تكن لوحات فريدا محاولة للهروب من الألم، بل مواجهته وجهًا لوجه. رسمت نفسها بعد الإجهاض، وبعد العمليات الجراحية، وسط رموز دينية وثقافية وجسدية. في لوحة "العمود المكسور"، يظهر جسدها مفتوحًا والمسامير تخترقه، بينما في "فريدا ودييغو"، نراها في صراع دائم بين التماهي مع الآخر والحفاظ على ذاتها.
فريدا لم تكن ضحية. كانت عاشقة للثورة، للحرية، وللحياة. ورغم الألم، كتبت في مذكراتها:
"قد يُكسر الجسد، لكن الروح لا تُهزم."
كانت تؤمن بأن الفن يمكن أن يكون صلاة، أن يحمل كل ما لا تستطيع الكلمات قوله. لذلك، حين أحبّت، أحبّت بعنف، وحين تألمت، أبدعت لوحات تهزّ القلب. علاقتها المتأرجحة مع دييغو ريفيرا كانت جزءًا من لوحاتها، تمامًا كعلاقتها بجسدها وبالوطن.
فريدا والفن كنجاة
اللوحة عند فريدا لم تكن زينة، بل وسيلة للنجاة. كانت تضع الألم على القماش لتنجو، كانت تحوّل الجرح إلى شكل، والنزف إلى لون.
"أرسم نفسي لأنني كثيرًا ما أكون وحيدة، ولأنني الشخص الذي أعرفه أكثر من غيره."
كانت اللوحة اعترافًا، وفضفضة، وصرخة، وتطهيرًا. لذلك، لا تُشبه أعمالها أحدًا. تداخلت فيها الأسطورة والواقع، الرموز المكسيكية القديمة والمشاهد السريالية، لكنها دائمًا كانت تنزف حقيقة.
إرث خالد وتأثير عالمي
رغم وفاتها المبكرة في سن السابعة والأربعين، إلا أن شهرتها تصاعدت بشكل لافت بعد موتها، لتتحوّل إلى رمز نسوي عالمي، وأيقونة في الفن والموضة والسياسة. أصبحت حياتها مصدر إلهام للأفلام، والكتب، والمعارض، وأُدرج منزلها "البيت الأزرق" كواحد من أهم المتاحف الفنية في المكسيك.
فريدا: أيقونة الحرية والألم
اليوم، بعد عقود من رحيلها، ما زالت فريدا كاهلو رمزًا للمرأة التي قاومت، وأحبّت، وواجهت، وخلّدت ذاتها في الفن. صارت صورتها تطوف العالم، لا كوجه فقط، بل كصوت داخلي يقول:
"ما أحتاجه أكثر من أي شيء هو الحياة، أن أعيش."
فريدا كانت حياة تمشي على عكّاز، تنزف وتضحك، تتألم وتكتب، تقع وتنهض، ترسم الجرح ثم تحوّله إلى شيء خالد.