فضفضة
كتبت: جيهان سرور
ما إن تلامس قدماي بوابة رأس البر، حتى أرتدّ داخلي إلى زمن بعيد، كأنني أخطو لا إلى مكان، بل إلى ذاكرةٍ تسكن القلب منذ الطفولة.
أعود، في لحظة، إلى تلك الصغيرة ذات الأعوام الستة، أتنفّس من خلالها، وأرى بعينيها العالم كما كان: بسيطًا، دافئًا، نقيًّا.
رائحة اليود تعبق في الجو، فتوقظ في روحي إحساسًا غامضًا بالحنين،
تتفتح حواسي كما تتفتح أزهار النيل عند أول خيط شمس،
ولا أرى أمامي سوى جردل وجاروف، أركض بهما كل صباح أمام العشة،
ألعب في كل رقعة ترابية وكأنها ساحل بحر.
أتذكّر مضرب الراكت الذي كان لأخي،
كيف كنت أخرجه من تحت السرير، أبحث عن الكرات المخبّأة،
وألهث فرحًا حين أجد من يشاركني اللعب.
كأن الله خلق اللعب لنا وحدنا، ونسج لنا من ضحكاتنا مسرحًا للفرح.
طعم ساندويتش التوست من مطعم أبو طبل ما زال حيًّا في ذاكرتي،
ورائحة الخبز الساخن على الفطار كل صباح،
كأنها نذيرٌ بأن اليوم سيحمل لنا السعادة.
أما تمشية النيل ليلًا، فكانت مسرحًا للسكينة،
الفشار، وغزل البنات، والآيس كريم الذي يسيل على يديّ
فأتحسّسها دون وعي، كمن يلمس أثر الزمن بيده.
أتذكر دراجتي ذات المسند وخمس النقلات،
وألواح الثلج التي كنّا نكسرها من السوق،
لتضعها أمي في الكولمن، تحفظ بها برودة الماء ومحبة الأيام.
رائحة صينية البطاطس باللحم من الفرن،
ووعاء الأرز بالشعيرية،
وشجارنا الطفولي الدائم: "مين يدخل الحمام أول؟"
ثم نومٌ عميق، ناعم، كأن البحر غسَلَ أرواحنا قبل أجسادنا،
وكأن ضحكاتنا تهدهدنا حتى نغفو.
رحلة الجربي إلى اللسان،
رغم تعبها ومشقتها، كانت لنا مغامرة، تحمل عبق المغامرة وفرحة الوصول.
ثم... فجأة، أفيق من شرودي،
أنظر حولي فأرى زوجي وأطفالي يتأملونني في صمت،
كأنهم يحاولون أن يفهموا سرّ النظرة الحالمة في عيني،
يتساءلون في دهشة عن هذا الارتباط العجيب بالمكان.
وأخجل أن أقول...
إنها مجرد ذكرى صغيرة،
من بحرٍ واسع من الذكريات،
ذكريات علمتني أن أبسط التفاصيل هي التي تصنع في القلب عمق الحياة...
وأن الطفولة لا تغادرنا حقًا، بل تنتظر لحظة صادقة لتعود.