أخر الاخبار

"حين صار الصمت مرآةً للنفوس"



مارينا أبراموفيتش  
كتبت: مي محمد حمزة

في صمتٍ خاشع، جلست مارينا أبراموفيتش لساعاتٍ طوال، تُحدِّق في أعين الغرباء. لم تكن تتحدث، ولم تكن تتحرك، فقط تنظر... وتدعك تنظر. لكنها لم تكن تنظر إليك، بل كانت ترى من خلالك، إلى ذلك الكائن الإنساني المختبئ خلف الضوضاء اليومية، إلى هشاشتك، إلى وحدتك، إلى حزنك القديم،وظلامك المختبئ .

مارينا لم تكن فنانة بالمعنى التقليدي، لم تلتقط الريشة لترسم من بعيد، بل كانت هي اللوحة، وهي الأداة، وهي الصوت والصمت في آنٍ واحد. وُلدت في بلغراد عام 1946، لأسرة عسكرية صارمة، تنتمي إلى عالمٍ لا يعرف الحنان، بل يُقاس فيه كل شيء بالانضباط والانتصار. عاشت مارينا بين جدرانٍ تُشبه الثكنات، ولم تجد طريقًا إلى الدفء سوى الفن، الفن الذي سرعان ما صار وسيلتها الوحيدة للنجاة. 

هي فنانة أداء وفنانة فيديو وفنانة تشكيلية صربية تدور أعمالها حول العلاقة بين الأداء والجمهور، وحدود الجسد، وإمكانيات العقل.



في العديد من المناسبات، منحت لقب «جدة فن الأداء الجسدي» وذلك نسبة لعملها طويل الأمد في مجال فن الأداء منذ بداية سبعينات القرن العشرين. وقد صرحت أبراموفيتش بنفسها أن هدفها عبر أعمالها يكمن في محاولة لدمج الفنون الأدائية وجعلها وسيلة مقبولة في مجال الفنون بشكل عام وفي مجال الفن المعاصر على وجه الخصوص. في العام 2013، أنشات أبراموفيتش معهد مارينا أبراموفيتش، وهو عبارة عن مساحة متحف مصممة لتكون بمثابة مرتع للفنانين في مختلف المجالات: الموسيقى، والسينما، والمسرح، والعلوم،



 وفن الأداء والمزيد.


قالت:"بمجرد أن تدخل نفسك في الأداء، يمكنك القيام بأشياء مع جسدك لا تفعلها في وضع طبيعي ".

في أول ظهور لها، درست أبراموفيتش عناصر من الطقوس والإيماءات. واستخدمت عشرين سكينًّا حادة واثنين من المسجلات. لعبت لعبة روسية حيث تم توجيه شفرة السكين بشكل إيقاعي بين أصابع يدها. في كل مرة تقطع فيها نفسها، كانت تلتقط سكينًّا جديدًا من بين عشرين سكين مصطفة أعدتها مسبقًا، وقامت بتسجيل نفسها، وكررت العمل. بعد أن قطعت نفسها 20 مرة، وقالت أنها سجلت لنفسها شريط وأعادت تشغيل الشريط والاستماع إليه، حاولت تكرار الحركات ذاتها، وتكرار الأخطاء، وبذلك الجمع بين الماضي والحاضر. كانت أبراموفيتش مصممة على استكشاف الحدود الجسدية والعقلية للجسم – الألم والأصوات الطعنة، والأصوات المزدوجة من تاريخ أعمالها والتكرار. وانطلاقًا من هذا العمل، بدأت أبراموفيتش بالانتباه لحالة الوعي عند الفنان الأدائي، المؤدي للعمل .

ماذا ستفعل لو أُعطيت كامل السلطة على الآخر؟

اختارت جسدها ليكون ميدانًا للتعبير. لم ترَه شيئًا يجب ستره أو تزيينه، بل أداة حقيقية للكشف. وفي عملها الشهير "إيقاع صفر"، وضعت جسدها بين أيدي الجمهور، ووقفت ساكنة كتمثال، تسمح لهم بأن يفعلوا بها ما يشاؤون. تركت أمامهم أدوات متعددة، من وردة إلى شفرة حلاقة، من ريشة إلى مسدس محشو. وكانت الرسالة بسيطة، ومفزعة. 

تعرضت مارينا خلال هذا العرض للضرب، للتمزيق، للتهديد بالقتل، لكنها لم تتراجع، كانت تعرف أن الألم الجسدي أقل خطرًا من الألم النفسي الكامن في صمت البشر .

كانت كمرآة تعكس حقيقة النفوس البشرية، عندما تأخذ السلطة الكاملة .

حب يشبه الطقوس

ارتبطت بعلاقة حب وفن استثنائية مع الفنان الألماني أولاي، شكّلا معًا ثنائيًا روحيًا، قدّما عروضًا تتحدى حدود الجسد والثقة، مثل عرض وضع السهم المشدود بين قلبيهما، حيث تكفي لحظة ضعف ليتحول الحب إلى جرح. وحين قررا إنهاء العلاقة، لم يتبادلا الكلمات، بل مشيا من طرفي سور الصين العظيم حتى التقيا في المنتصف، وقالا وداعًا .

صمتٌ يفتح أبواب الروح

مارينا آمنت أن الفن ليس مادة تُباع، بل تجربة تُعاش. كانت تقول إننا في عصرٍ فقد فيه الإنسان علاقته بجسده وبروحه، وأن دور الفنان الحقيقي هو أن يوقظ هذا الارتباط المفقود. في عرضها الأشهر "الفنان حاضر"، جلست قبالة كل من أراد مشاركتها الصمت. لم يكن صمتًا عاديًا، بل كان صمتًا مقدسًا، يفتح أبوابًا للنظر في الداخل، حيث لا توجد كلمات، بل فقط شعور خام.

رحلة بحث داخل الإنسان

رحلة مارينا كانت رحلة بحث عن الحقيقة، لكنها لم تكن الحقيقة المطلقة، بل حقيقتها الشخصية: كيف يصير الجسد معبرًا للروح؟ كيف يُترجم الصمت إلى حضور؟ كيف يمكن للألم أن يولد جمالًا؟

في أعمالها، كانت تشبه صوفيةً تمارس طقوسها على مسرح الحياة. لا تلهث وراء التصفيق، ولا تتزين بالزيف، بل تمضي، بثباتٍ، نحو جوهر الإنسان.

في الختام...

في نهاية الطريق، لم تكن مارينا تبحث عن إجابات، بل كانت تزرع الأسئلة في تربة القلب الإنساني. لم تخف من الألم، بل فتحت له أبوابها، وتركته يعبر، ويعلّم، ويكشف. كانت تؤمن أن الجمال لا يُولد من الكمال، بل من الكسر. وأن أصدق لحظات الفن، هي تلك التي يتعرّى فيها الإنسان من كل ما ظنّه يحميه.

مارينا أبراموفيتش لم تترك وراءها لوحات معلقة على الجدران فقط، بل تركت أثرًا حيًّا في أرواح من شاهدوها. ذكّرتنا أن الصمت قد يكون أبلغ من الكلام، وأن النظر في عيني الآخر، بصدق، يمكن أن يكون فعلًا ثوريًا.

ربما لهذا السبب، ما زالت أعمالها تهمس لنا، حتى بعد أن ينتهي العرض... لأن الفن الحقيقي لا يغلق ستاره، بل يظل حيًا في الداخل.

# فن من الروح


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-