أخر الاخبار

في قلب عرفات... حين نطقت المروءة بصمتها


 "في حضرة النبل... حكاية من عرفات"

بقلم: جيهان سرور 


هناك، في عرفات، حيث تنخلع الأرواح من ضيق الدنيا لترتقي نحو سعة السماء،

حيث تسكب القلوب أثقالها في نهر الدعاء، وتلتحف الأرواح برداء الرجاء،

تجلّت لي أعظم صورة للإنسان... لا في ملامحه، بل في شهامة موقفه.


في يومٍ تقف فيه الشمس شاهدةً على العابرين إلى رحمة الله،

خطونا نحو الحافلة في مسير بدا هينًا في النظر، ثقيلًا في الواقع،

حتى إذا أوشكنا على بلوغ الغاية، خذلتني خطاي.


انهار جسدي كما تنهار الأشجار العتيقة في وجه العاصفة،

رعشةٌ باغتت أطرافي، وغشاوةٌ حجبت بصري،

وبرودة نازلة في جسد أنهكته حرارة المشهد...

لحظة شعرت فيها أنني غريبة حتى عن نفسي.


لكنّ من حولي لم يكونوا مارة، كانوا قلوبًا تمشي،

أناس لم يمرّوا بي عبور الغريب، بل توقّفوا عند حاجتي،

كأن الرحمة نادتهم، فأجابوا.


سُقيت ماءً دون طلب، ولوّح لي أحدهم بكفّه ظلًا،

وآخر وضع فاكهة في يدي كأنها عهد،

ودعوات صادقة تتسلل إلى قلبي كما تتسلل النسائم في لحظة اختناق،

لم يفعلوا ذلك فضلًا، بل لأن الطيب فيهم فطرة لا تصطنع.


وفي خضم هذا النبل، بزغ شاب كالنور في الظلمة،

كان يدفع أمه على كرسيّ، لكن عينه لم تغفل عن ضعفي،

وكأن الله زرع في قلبه جهازًا يلتقط ألم المحتاجين دون صوت.


اقترب، وقال في سكونٍ يليق بالعظماء:

"اجلسوها، سأوصل والدتي وأعود."

ولم يكن وعدًا... بل عهدًا عاد به، كما يولد الصبح من رحم الليل.


عاد ليأخذ مكاني... لا بدافع الشفقة، بل بدافع البِرّ.

أسندني كأنني أمه، حمل عني ضعفًا، وسترني بجميل فعله.

رفض أن يساعده أحد، وكأن الفضل لا يليق إلا به.


وزوجته، رفيقة اللحظة النقية، كانت هناك،

هادئة كدعاءٍ مستجاب، تسانده بصمتٍ لا يحتاج إلى بيان،

روحها تُظلّ الموقف، وابتسامتها سكينة.


يا أمّ هذا الشاب،

إن دعوتِ الله أن تري فيه البرّ، فقد صدقكِ الله وعده،

وإن تمنيّتِ له أن يكون عونًا، فقد صار عونًا لقلوب لم يعرفها.

فلكِ من الدعاء بقدر ما ربيتِ،

ولابنكِ أن يُظِلّه الله كما ظلّلني، ويُسعده كما أسعدني.


أما هو… فدعائي له لا ينقطع:

أن يبارك الله خطاه، ويجعلها نورًا على درب الجنة،

أن يُجزله من الخير كما أجزل لي،

وأن يرزقه ذريةً، تحمل من خُلقه طيب الأصل، ومن فعله نُبل البدايات.


ذلك اليوم... لن يُروى كذكرى ألم،

بل كصفحة ناصعة في كتاب الحياة،

تحدّثت فيه المروءة بلغة الفعل،

وظهر فيه وجه الخير الذي يسكن أعماق البشر،

ينتظر فقط لحظة ليُكشف عن ضيائه.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-